السبت، 14 يناير 2012

** الروم الكاثوليك والعروبة **

  • لقد برز الروم الملكيين الكاثوليك في مجتمعاتهم بحسب ما سمحت لهم الظروف والأنظمة القائمة ، فقد كانوا ،منذ تبلور طائفتهم ، في صميم العمل الوطني من خلال ممثليهم في المجالس الوطنية ، ووظائف بعضهم إلى جانب الأمراء فخر الدين المعني وبشير الثاني الشهابي ، إضافة إلى دورهم في إعلان دولة لبنان الكبير ، كما كان للروم الملكيين الكاثوليك دور بارز في مصر منذ الحملة الفرنسية وفي عهد محمد علي ، إضافة إلى كونهم رواداً في القطاع الصناعي ،  ولقد شاءت الكنيسة الملكية الكاثوليكية أن تشكل من نفسها جسر عبور للقاء الشرق والغرب ....

    " لقد أراد الله بحكمته الأزلية أن نكون شهوده في هذه البقعة العزيزة من العالم ، وهي إرادة نفرح بها ونستجيب لها. إن كنائسنا راسخة في هذه الأرض وهي في قلب مجتمعاتنا تساهم في بناء الإنسان فيها وتشارك في الحياة العامة بكل أوجهها ومتطلباتها وصعوباتها وتضحياتها ، وتقف بجانب الفقير والمحتاج والمحروم والمظلوم " بهذا الكلام توجهت الرسالة الرعوية الصادرة عن اجتماع رؤساء الكنائس في الشرق المنعقد في لبنان عام 2000 إلى شعوب المنطقة قاطبة ، هذه الشعوب التي تنوعت في أعراقها وطوائفها لتشكل بعد انصهارها في البوتقة العربية نسيجا مترابطا ، ومن هذه الطوائف ، هناك طائفة مسيحية نعرفها اليوم باسم طائفة الروم الملكيين الكاثوليك ، وهنا أحب أن أوضح ترابط هذه الطائفة مع القومية العربية ، موضحا دورها الهام في يقظة العرب لمساهمتهم في الحضارة الإسلامية . 

    للتعريف بهذه الطائفة، لا بد من العودة إلى زمن انتقال السيد المسيح إلى السماء ، حيث أنه بعدها ، توجه الرسل الاثني عشر ( وهم الحواريون حسب العقيدة الإسلامية ) إلى جهات متعددة من العالم القديم ، مؤسسين هم ومن جاء بعدهم من المؤمنين - مراكز رئيسية في أربعة من المدن الكبرى حينها (إضافة إلى القدس بعدها)، وسميت هذه المراكز ، بالبطريركيات ، وهي خمسة إنطاكية ( التي تمت فيها تسميتهم بالمسيحيين ) والإسكندرية والقسطنطينية  والقدس  وروما ( عاصمة الدولة البيزنطية ) ، وعندما كانت تستوجب الأمور العقائدية ضرورة اتخاذ قرارات ما، كانت تتم الدعوة  إلى عقد مجمع كنسي في إحدى المدن للاتفاق على اتخاذ التوجيهات والتصحيحات الضرورية اللازمة .
    إن تسمية الـروم  الملكييـن الكاثوليك تنقسم  إلى  ثلاثة  مراحل ، الأولى هي  تسمية  " الملكييـن "  حيث  أن  تسمية " ملكيين " قديمة العهد وتعود إلى القرن الخامس الميلادي الذي شهد الخلاف بين مدرستي الإسكندرية وإنطاكية اللاهوتيتين ، عندما تبنى مجمع خلقيدونيا، سنة 451 ، وجهة النظر الانطاكية ، بدعم من البابا لاون الكبير(440 - 461) ، وتثبيت من الإمبراطور البيزنطي مرقيانس (450 - 457) ، مما زاد حدة الخلاف بين الفريقين . وانطلق أهل المعارضة في تحديهم للسلطة المركزية البيزنطية ، فأطلقوا على اتباع المجمع الخلقيدوني لقب " الملكيين " أي اتباع الملك ، نسبة إلى الإمبراطور مرقيانس ، في حين أطلق أنصار المجمع على المعارضة لقب اليعاقبة ، نسبة إلى يعقوب البرادعي، ويجب أن نوضح بأن الملكيين هم مؤمنوا البطريركيات الثلاثة الإسكندرية وإنطاكية والقدس ، وهي بطريركيات تقع في قلب الشرق، كما أنهم (الملكيون) تغذوا من تقليد آباء الكنيسة، من اليونان والسريان ، وحافظوا على شركتهم مع المركزين البطريركيين روما والقسطنطينية في وحدة إيمان الكنيسة التقليدي .

    أما  تسمية " الروم "  فهي  تسمية حديثة نسبيا، إذ لم تكن معروفة في الدولة الإسلامية ، فالاسم  الذي  كان  شائعا  آنذاك  هو   " الملكية " أو " الملكانية " ، وقد استمر معروفا حتى أوائل القرن الثامن عشر . أما كيف أطلق لقب " الروم " على الكنيسة الملكيـة فهذا يعـود - بحسـب البعض - إلى خطأ  في التـرجمة الأجنبيـة للاسم ، فكلمة " روم " مقتطعـة من لفظـة " رومانيين " (ROMANIAN) الواردة في التواقيع السلطانية العثمانية، وذلك نسبة إلى الاسم الذي أطلق على القسطنطينية منذ تأسيسها، (روما الجديدة) ، وكون أن الكنيسة الملكية أنتسبت إلى القسطنطينية  بتراثها الفكري  واللاهوتي  والفني واللغوي، فليس مستغربا ربط اسمها باسم القسطنطينية (آنذاك) وهو روما الجديدة .



    أما الجزء الأخير من الاسم ، وهو الكاثوليك ، فناتج عن اتحاد فريق من الكنيسة الانطاكية الملكية بروما سنة 1724 ، لذلك عُرف المتحدون بروما بالروم الملكيين الكاثوليك . أما الذين عارضوا الاتحاد فقد عرفوا بالروم الأرثوذكس مسقطين عنهم لقب الملكيين .


    أسس البابا أوربانس الثامن (1623 - 1644) ، مجمع انتشار الإيمان ، الذي اخذ على عاتقه نشر الكثلكة في الشرق ، وبدأت الكنيسة الجامعة في روما بإرسال موفدين ورجال دين إلى الشرق ، وكانت لمدينة حلب الدور الكبير في استقبالهم ، فلقد استقبل مطران حلب (للملكيين ، وقبل إضافة كلمة الروم) ملاتيوس كرمه المرسلين الأولين في دار المطرانية حيث انشأوا مدرستهم الأولى . وبعدما ترقى ملاتيوس كرمه السدة البطريركية لكرسي إنطاكية للملكيين عام 1634 ، تفاوض مع روما لإبرام معاهدة وحدة بين الكنيستين الانطاكية والرومانية ، إلا انه توفي في أثناء المفاوضات ، ولعله دفع حياته ثمنا لخطواته الوحدوية مع الكنيسة الكاثوليكية، إذ قد سرت إشاعات مفادها انه مات مسموما .

    وبدأ تيار كاثوليكي قوي ينمو ويتسع داخل الكنيسة الملكية يتوجيه من رجال الدين اللاتين القادمين من روما وفي طليعتهم اليسوعيون، وذلك من خلال عمل الرهبانيتين المخلصية والحناوية (الملكيتين) . وفي العام 1683، عندما عين كاهن ملكي عربي من حلب ، هو إيوثيميوس الصيفي، مطرانا (أي رئيس أساقفة) على أبرشية صور التابعة لكرسي إنطاكية ، بادر المطران الصيفي هذا إلى إعلان اعترافه بسيادة بابا روما ،  وهكذا بدأ الانشقاق في الكنيسة الملكية الانطاكية بين ما يسمى " بالروم الكاثوليك " و " الروم الأرثوذكس " .

    وعندما سنحت الفرصة بوفاة البطريرك اثناسيوس الثالث (البطريرك الانطاكي) ، سنة 1724، وشغور الكرسي البطريركي الانطاكي ، عمد الفريق الكاثوليكي من الملكيين إلى انتخاب سيرافيم طاناس ، ابن أخت الصيفي وتلميذ مجمع انتشار الإيمان في روما ، بطريركا باسم كيرلس السادس ، ولأول مرة كان البطريرك عربيا وليس يونانيا ، وجرت الرسامة في دمشق ، في20 أيلول 1724، فاكتمل بانتخابه تنظيم الكنيسة الملكية الكاثوليكية الجديدة ، وجميع رجال كهنوتها بطبيعة الحال من العرب ، إلا أن الأساقفة الأرثوذكس التأموا في سينودس انتخابي في القسطنطينية ، في يوم الأحد 27 أيلول وانتخبوا سلفسترس القبرصي بطريركا على الكرسي الانطاكي الملكي ، وشهد خريف إنطاكية في العام 1724  ظهور بطريركين على الكرسي الملكي ، أحدهما أرثوذكسي تدعمه السلطة العثمانية والكرسي القسطنطيني، والآخر كاثوليكي يدعمه المرسلون اللاتين ، ويدعمه الكرسي الروماني بحذر .

    لكن ذلك يجب أن لا يجعل الشك يساورنا ، إلى أن ما حدا بالروم الكاثوليك على الانفصال عن الروم الأرثوذكس لم يكن فقط العقيدة الدينية ، بل هو أيضاً ، ذلك الاستياء من سيطرة الكهنوت اليوناني الذي تزايد انتشاره في تلك الفترة بين الملكيين من ذوي الأوضاع المادية الحسنة في الشام ، وخاصة في مدينة حلب . وهكذا جاءت حركة الروم الكاثوليك منذ بدايتها حركة عربية في أساسها ، وان لم يعِ القادة الأوائل لهذه الحركة عروبة مراميهم . وهناك ما يدل على عروبة حركة الروم الكاثوليك عند قيامها. فعندما بدأ المتعلمون من الروم الكاثوليك يكتبون دفاعا عن ملتهم الجديدة لم يكتبوا إلا باللغة العربية ، واستخدموا لنشر كتاباتهم أول مطبعة عربية انشأوها هم أنفسهم في العالم العربي ، وقد أنشئت بادئ ذي بدء في حلب ، على يد المطران ملاتيوس كرمة ، ثم نقلت إلى دير القديس يوحنا الصايغ في الخنشارة بلبنان .

    وعندما حاول البطريرك سلفستروس (البطريرك الملكي الانطاكي) إرغام جميع أبناء الطائفة الملكية على التجرد من آرائهم الكاثوليكية ، حظرت السلطات الرومانية على الكاثوليك الاشتراك مع الأرثوذكس في القدسيات وذلك سنة 1729، فتكرس انقسام الطائفة بذلك إلى شطرين ، وكان قبل ذلك أنصار الوحدة يعيشون حياة كنسية واحدة مع الفئة الأخرى .

    واشتدت خلال عشرات السنين الاضطهادات على المتحدين بروما ، ويذكر التاريخ أنه في حلب قتل عشرة من الكاثوليك عام 1818  بحجة عدم خضوعهم لرئيسهم الشرعي (الأرثوذكسي) ، واضطر كافة الكهنة الروم الكاثوليك من مغادرة حلب واللجوء إلى لبنان ، وتمكنوا من العودة عام 1825 بعد اتفاق مع السلطات الأرثوذكسية تتيح لهم ممارسة خدمتهم الروحية تجاه الكاثوليك مقابل أن يدفعـوا لهم الرسوم المترتبة .

    أقباط مصر يشاركون في إحدى التظاهرات
    كما أن الروم الملكيين الكاثوليــك والروم الأرثوذكس في المشـرق العربي ، عارض كل منهما هيمنة الأطراف الأخرى عليه ، فالروم الملكيين الكاثوليك عارضوا سياسة طبع الطقوس الشرقية بالطابع اللاتيني للكرسي في روما ، والروم الأرثوذكس عارضوا السياسة الهلينية التي كانت تحرم على الناطقين بالعربية الوصول إلى الدرجات العليا من النظام الهرمي للكنيسة ، التي كانت تسيطر عليها الكنيسة اليونانية .

    وقد ساعد بعد نظر البابا بندكتوس الرابع عشر في مساعدة الشرقين من الكاثوليك ، حيث ندد في رسالة له عام 1743 ، بانتقال الملكيين إلى الطقس اللاتيني (التقاليد اللاتينية وليس العقيدة الكاثوليكية) بتشجيع من فرنسيسكان دمشق : " إننا نحظر ثانية على كل مؤمن من الروم الكاثوليك الانتقال إلى الطقس اللاتيني ونحظر على المرسلين...محاولة تحريضهم على انتحال الطقس اللاتيني " وتأسست كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك بذلك، وساهمت في مسيرة القومية العربية، ووقفت بشدة أمام محاولات المس بالقضايا العربية عموما ، وباللغة العربية خصوصا ، ولا ننسى أن قرارا من مجمع التفتيش في الكنيسة الكاثوليكية بروما في 9 كانون الأول 1959، حظر على الكهنة الشرقيين الكاثوليك العاملين في أوروبا الغربية وأميركا استعمال اللغات المحلية ولو جزئيا ، فتصدى للقرار مكسيموس الرابع بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك تصديا حازما أحاط  بالأمر قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرين ، فرجع مجمع التفتيش عن حظره ، كما يجب أن لا ننسى المواقف البطولية لرمز من الرموز الوطنية في العالم العربي وهو المطران هيلاريون كبوجي مطران القدس في المنفى لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك ، والذي سجنته قوات الاحتلال الإسرائيلي انفراديا ، اكثر من ثلاث سنوات .



    هذه هي الطائفة العربية المسيحية التي قدمت في الماضي، وتقدم في الحاضر، وسوف تتابع عملها في المستقبل برفد الحضارة العربية بما يلزم في جميع الأوجه.    
      
    اللهم اشهد اني بلغت.
     ============================================
    مزباسل قس نصرالله
    (نوبلز نيوز - علم بلا حدود)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق