كطفل غارق في ارتباكه،
تماماً هكذا كان حال الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت، الذي أفرجت عنه المقاومة
الفلسطينية، بعد أكثر من خمسة أعوام، على العملية المهمة التي وقعت في جنوب قطاع
غزة، وأسفرت عن أسر هذا الجندي وقتل اثنين من رفاقه.
من لاحظ شاليت أثناء مرحلة
التسليم، انطلاقاً من غزة ومروراً بمصر ثم قاعدة سلاح الجو الإسرائيلي في تل نوف،
لا يمكن أن يقول إن هذا فعلاً جندي متمرس في الفنون العسكرية، لقد بدا مضطرباً
ويائساً، ضعيف البنية، غير قادر على فهم ما يجري، وبالكاد يستوعب أنه رجل ناضج.
والحقيقة أن شاليت بضعفه
جسّد حالة إسرائيل الحالية، إسرائيل المهزومة التي تتلقى الضربات المتتالية، وهي
نفسها إسرائيل التي جمعت كل قوتها في عمليات عسكرية قاسية ومتنوعة، من أجل تحريره،
فضلاً عن استنجادها بدول كثيرة، دون أن تعرف مكان هذا الشاليت.
نتنياهو فتح ذراعيه لشاليت،
لكنه حتماً كان يندب حظه على صفقة اعتبرت فيها إسرائيل خاسرة، وربما كان يقول في
قرارة نفسه "خمسة مثلك يا شاليت في الأسر وتزول إسرائيل"، إلا أنه احتكم
ليس إلى صوت عقله الشخصي، وإنما لصوت الجمهور الإسرائيلي، الذي أبدى حماسةً لقبول
صفقة التبادل.
وبالرغم من موقف الجمهور
الإسرائيلي الذي وافق على إتمام الصفقة، وانتظار عودة شاليت إلى منزله، إلا أن هذا
الجمهور حتماً سوف يجلد شاليت، ويحمله مسؤولية الوقوع في الأسر والمساومة على
تحريره في صفقة تبادل غير متكافئة.
في كل الأحوال، نتنياهو
أراد من الصفقة تحرير نفسه من الضغط الشعبي الداخلي الذي بدا متحاملاً عليه نتيجة
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية وغلاء الأسعار، ففي العقلية السياسية
الإسرائيلية، هناك قناعة بأن المشكلة الداخلية التي يستعصي حلها، تستلزم محاولة
إلهاء الجمهور الإسرائيلي، إما بصفقة يرضى بها، مهما كان شكلها، أو عن طريق افتعال
حرب ضد الفلسطينيين.
رئيس الحكومة سلك الخيار
الأول، أي أنه داخلياً استمزج رأي جمهوره ووافق على صفقة التبادل، وخارجياً، هو
أعاد حبل التواصل مع مصر، خصوصاً بعد أحداث مقتل الجنود المصريين، ذلك أن نتنياهو
قلق من الربيع العربي، ولا يرغب في تعميق الخلاف مع مصر بعد الثورة.
الجوار العربي كله يشكل
قلقاً بالنسبة لإسرائيل، فوضع مصر الحالي غير مستقر، وهناك حالات غضب متزايدة من
قبل الجمهور المصري الناقم على معاهدة كامب ديفيد، وهذا يشكل هاجساً لإسرائيل
وتخوفاً من تردي العلاقة مع جار مهم جداً بالنسبة لها، خصوصاً وأنه يجاورها في
الحدود الجنوبية من جهة إسرائيل.
الوضع في سوريا مقلق
للغاية، وانعكاسات القلق واضحة على إسرائيل، وكم من مرة وجهت التعزيزات العسكرية
الإسرائيلية، وهي باقية حتى هذه اللحظة، على الحدود الشمالية، هذا غير الوضع
اللبناني وحزب الله، والوضع الأردني، وطبعاً الوضع الفلسطيني الذي يتحرك
دبلوماسياً من أجل الحصول على دولة مستقلة.
نعم، إسرائيل تقرأ المعطيات
جيداً، وتدرك أن هناك أزمة اقتصادية عالمية تعيق الولايات المتحدة الأميركية،
وتعيق أوروبا بأكملها، وأيضاً تدرك إسرائيل أن الربيع العربي يتجه أكثر ناحية
الاستجابة للمطالب الشعبية، هذه التي تربطها بإسرائيل علاقة العدو غير المهذب.
هذا عدا تركيا التي تنظر
إلى إسرائيل باعتبارها دولة عنصرية وفوق القانون، ناهيك عن تآكل وضع إسرائيل أمام
العالم، بسبب التراكمات العنصرية والحروب القاسية التي كانت تشنها على
الفلسطينيين، لكل ذلك، يرى نتنياهو أن على إسرائيل أن تقرأ المتغيرات في المنطقة
وتستجيب لها ولو بالحد الأدنى.
هذا ربما يشكل مؤشراً على
رغبة إسرائيل حالياً في "تهدئة اللعب"، كما يقول المثل، لكن ربما كانت
هناك مخططات تقوم بها الدولة العبرية للعودة من جديد إلى فتح مواجهة مع
الفلسطينيين، تخرب أولاً على كل المحاولات لإعادة ترميم وحدتهم الداخلية، وثانياً
تخرب على حقوقهم بدولة مستقلة.
ثمة من يربط صفقة شاليت
بالاستعدادات لدق طبول الحرب الإسرائيلية ضد إيران، بمعنى أن هناك تخوفاً
إسرائيلياً كبيراً من الملف النووي الإيراني، خصوصاً في ظل الاستبعاد اللحظي
لمواجهة عسكرية دولية ضد إيران، وهذا الرأي يعتقد بأن إسرائيل ستتقدم خطوة إلى
الأمام في استهداف إيران عسكرياً.
ربما هذا الرأي غير صائب،
لماذا؟ أولاً لأن إسرائيل تواجه العزلة المتزايدة في المحافل الدولية، وثانياً لأن
حدودها غير آمنة بسبب الثورات العربية المجاورة لها والمهددة لوجودها في أي لحظة،
ولذلك لا تستطيع إسرائيل أن تورط نفسها في ظل الأوضاع الحرجة والمقلقة، في فتح
جبهة مواجهة مع إيران.
ثم إن إسرائيل تدرك بأن
الولايات المتحدة غير مستعدة لتحمل خسائر إضافية من جراء إطلاق حملة عسكرية ضد
إيران، ولذلك فإن كل التفكير الإسرائيلي الحالي منصب على منع حصول الفلسطينيين على
دولة مستقلة، وتأبيد الخلاف بين الحركتين "فتح" و"حماس".
إسرائيل التي وافقت على
صفقة التبادل، قد تستفيد منها لاحقاً في أكثر من جانب، الأول أن الصفقة نفسها أعطت
زخماً لحركة "حماس"، باعتبارها راعية المقاومة والقادرة على التأثير
بقوة، في موازين القوى الداخلية، وهذا يقودنا إلى الجانب الثاني الذي قد تستفيد
منه إسرائيل في العودة إلى مسلسل الاجتياحات والعدوانات.
قد تلجأ إسرائيل إلى تسويق
الفرضية الآتية: أن حماس لها امتداد حاضر في الضفة الغربية، وأن السلطة غير قادرة
على احتواء "حماس" هناك، وبالتالي هي لا تستحق أن تتحول إلى دولة، ثم
تسعى إسرائيل إلى شن عدوان على الضفة وغزة بحجة القضاء على المقاومة ووقف التهديدات
الأمنية التي تواجهها.
الملخص أن إسرائيل مأزومة
ومهزومة وتعاني من متغيرات داخلية وخارجية، وبالتالي هي وافقت على عملية التبادل،
استجابةً لموقف جمهورها الذي يرحب بإتمام صفقة مقابل شاليت، ومن أجل إراحة نفسها
ولو بشكل مؤقت من الضغوطات الداخلية، وحالياً قد تستفيد إسرائيل من كل فرصة تؤهلها
للتخريب في الشأن الداخلي الفلسطيني.
وهذه المرة ستتعامل إسرائيل
في ظل هذه الأوضاع، نقول بأنها ستتعامل مع كل المعطيات بحذر، حتى في الشأن
الفلسطيني، ستكون حريصة على تقديم الذرائع التي تؤهلها لارتكاب عدوانات لا تكلفها
ندماً كبيراً أو مزيداً من الانتقادات.
الكاتب : هاني عوكل
المصدر : موقع عرب 48
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق